ماذا لو قررت يوما ما أن تنفصل عن هذا العالم وتنطلق في رحلة أشبه بمغامرات أجدادنا القدامى، وتعيش حياة مختلفة ومستقلة تماما في قلب الطبيعة بعيدا عن ضجيج هذا العالم؟ ربما هي أمنية تراود الكثيرين منا، لكن القليل فقط من يمتلك الجرأة الكافية للتخلي عن الحياة المألوفة التي يعيشها كل يوم والسعي وراء مثل هذا الحلم. فادي ورند كانا من هؤلاء القلائل الذين امتلكوا الشجاعة لخوض مغامرة العيش بشكل مستقل في احضان الطبيعة، بل وأكثر من ذلك، اختارا أن يشاركا جمهورهم تفاصيل هذه الرحلة لحظة بلحظة.
لقد جعلتنا التقنية اليوم لا نكتفي بخوض المغامرات، بل نعيشها مع الآخرين عبر الكاميرا والمنصات الرقمية. لذلك تحولت قصة فادي ورند إلى تجربة ملهمة يتابعها آلاف المشاهدين حول العالم.
لماذا نبيع كل شيء لنعيش في الريف الأمريكي؟
هذا السؤال كان يتردد في أذهان الكثيرين عندما أعلن الزوجان فادي ورند من الأردن عن قرارهما الجريء والمختلف قبل حوالي السنتين بترك كل شيء والذهاب نحو تحقيق حلم حياة مختلفة.
كانت مغامرتهما، التي شاركا تفاصيلها عبر قناتهما على اليوتيوب، بمثابة صرخة في وجه النمط الاستهلاكي السائد وبحث عميق عن نمط حياة أكثر أصالة وهدوءاً واستدامة واكتفاءً ذاتياً في أحضان الطبيعة. رحلة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت تحولاً جذرياً في فلسفة الحياة، بدأت من حياة تقليدية في مدينة عربية مستقرة، وانتهت ببيت متنقل (كرفان) وصولا إلى منزل يبنيانه بأيديهما وسط غابات ولاية تينيسي الأمريكية.
لم يكن فادي ورند يعانيان من ضائقة مادية أو اجتماعية في بلدهما. على العكس، كانا يعيشان حياة مريحة ومستقرة. لكن هذا الاستقرار لم يكن كافياً لإشباع رغبتهما في الحرية الحقيقية والابتعاد عن القيود المادية والاجتماعية التي تفرضها الحياة المدنية. كان دافعهما الأساسي هو التحرر من سباق الفئران (The Rat Race) كما يقولون، حيث يعمل الإنسان لساعات طويلة ليتمكن من دفع الفواتير والالتزامات، ليجد نفسه في نهاية المطاف مقيداً بأعباء لا تنتهي.
كان أول قرار عملي اتخذوه هو بيع كل ما يملكونه وأخذ كل مدخراتهم ثم حزم أمتعتهم المتبقية لينتقلا إلى الولايات المتحدة بهدف العيش في الريف.
رحلة جميلة على مدى 140 فيديو
على مدى شهر تقريبا، عشت مع فادي ورند وابنهما يونان تفاصيل رحلتهم المثيرة عبر مشاهدة جميع الفيديوهات المنشورة على قناتهما على اليوتيوب، من لحظة السفر إلى أمريكا، مرورا باختيار الأرض وتجهيزها، وحتى الوصول إلى اكتمال بناء هيكل البيت والجدران الخارجية.
رحلة ممتعة جمعت بين صعوبات العمل في الارض وبناء البيت، واللحظات العائلية الدافئة، ومشاهد الطبيعة الجميلة، والمعلومات الغنية عن الزراعة، وأنظمة الطاقة الشمسية، وتربية الدجاج. مغامرة متكاملة تمزج بين الجهد البدني، والمعرفة، والحياة في أبسط صورها.
مغامرة تعيدك الى الحياة الطبيعية بعيدا عن ضجيج المدن الحديثة. تزرع وتحصد وتربي الدجاج وتبني بيتك بيديك. فقط الطبيعة والهواء والمطر والشمس والخضرة من حولك، تماما كما عاش أجدادنا.
ألا نتمنى جميعا ان نعيش هذه المغامرة؟؟
البداية: كرفان صغير وتحديات كبيرة
لم يبدأ الأمر ببناء منزل الأحلام مباشرة، بل كانت البداية حقيقية وصادمة: العيش في كرفان صغير، حتى يتمنكا من تحقيق حلمهما.
تلك المرحلة كانت محكّاً حقيقياً لاختبار صلابة قرارهما. العيش في مساحة محدودة جداً، والاعتماد على الذات في أبسط متطلبات الحياة. كان عليهما التعامل مع أساسيات الحياة مثل توفير المياه والكهرباء وتدفئة المكان في الشتاء، بعيداً عن الخدمات السهلة المتوفرة في المدن. هذه المرحلة لم تكن سهلة، خاصة في بلد جديد وثقافة مختلفة، لكنها رسّخت لديهما قيمة كل قطرة ماء وكل واط كهرباء يتم استهلاكه.
العيش بشكل مستقل Off grid
لقد اختار فادي ورند العيش بشكل مستقل في احضان الريف الأمريكي، وهذا بحد ذاته تحد كبير يتطلب بذل الكثير من المجهود للوصول إلى حياة طبيعية.
فنحن هنا لا نتحدث عن مجرد الانتقال إلى الريف الامريكي وإيجاد بيت للعيش فيه، إنما العيش بشكل مستقل.
والعيش بشكل مستقل Off-Grid هو مفهوم متداول لأسلوب حياة يعني أن يكون المنزل أو مكان السكن غير متصل بالشبكات العامة للكهرباء والمياه والصرف الصحي. وبدلا من ذلك، يعتمد الساكن على حلول بديلة ذاتية للحصول على الكهرباء والماء والغذاء والصرف الصحي:
- توليد الطاقة يتم من خلال الألواح الشمسية، أو التوربينات الهوائية، أو حتى المولدات الحيوية.
- الحصول على المياه يتم من خلال جمع مياه الأمطار، أو حفر الآبار، أو إعادة تدوير المياه.
- الصرف الصحي يتم عبر استخدام أنظمة الصرف المستقلة مثل الحفر الامتصاصية أو المراحيض الحيوية (composting toilets).
- الغذاء يعتمد على زراعة محاصيل شخصية و تربية المواشي والدواجن، لتقليل الاعتماد على الشراء من الأسواق.
العيش بشكل مستقل هو رحلة نفسية وفلسفية. إنها مواجهة مباشرة مع الذات، ومع الصعوبات اليومية، ومع معنى الحرية الحقيقية بعيدا عن الأنماط الاجتماعية المفروضة علينا من العصر الرقمي الذي نعيشه.
العيش المستقل Off-Grid يفتح نافذة جديدة للتواصل مع الطبيعة. مع كل شروق وغروب، ومع صوت المطر أو حفيف الأشجار، يدرك الإنسان أنه ليس مجرد مستخدم للموارد، بل جزء من منظومة طبيعية متكاملة. هذا الاندماج يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والبيئة من حوله.
بناء منزل الأحلام بأيديهما
لم تتوقف مغامرة فادي ورند عند العيش المستقل فقط، بل شملت أيضا البناء الذاتي لمنزلهما من الصفر، رغم عدم امتلاكهما أي خبرة مسبقة في عمليات البناء.
وقد تضمن ذلك:
- شراء أرض واسعة مليئة بالأشجار في الريف الأمريكي.
- تنظيف الأرض وإزالة الأشجار وتسوية موقع البناء مع تمهيد طريق للدخول.
- تجهيز حفرة امتصاصية للصرف الصحي.
- تركيب نظام طاقة شمسية وخزان مياه للعيش المؤقت أثناء البناء.
- وضع الأساس الخرساني للمنزل مع التمديدات اللازمة للصرف الصحي والتدفئة.
- بناء الهيكل الخشبي للمنزل والسقف والجدران.
- استكمال التقسيم الداخلي للغرف.
- إضافة المرافق الأخرى للمنزل مثل الكراج والمساحات الزراعية حول المنزل.
المفارقة أن فادي ورند اختارا الانفصال عن العالم والعيش بشكل مستقل وبناء منزلهما ذاتيا في الريف، لكنهما بقيا متصلين بالعالم الرقمي ليشاركا مغامرتهما. هذا الدمج بين حياة بسيطة مستقلة وبين توثيق رقمي حديث، جعل التجربة أكثر تأثيرًا وانتشارًا حول العالم.
تجربة للإلهام ولكن ليس للتعليم
التجربة التي يخوضها فادي ورند ملهمة للغاية، خصوصا في عصر الذكاء الاصطناعي الذي قد يدفعنا يومًا ما للعودة إلى الطبيعة والأعمال اليدوية التي مارسها أجدادنا، والتي يصعب على الذكاء الاصطناعي أن يحل محلها.
لكن من المهم أن ندرك أن ما يقدمانه ليس تعليما مباشرا. لا يمكن لأي شخص أن يكرر الخطوات التي قاما بها دون أن يتلقى تدريبًا أو يشاهد فيديوهات تعليمية متخصصة، تمامًا كما فعل فادي ورند عندما تعلموا كثيرا من التفاصيل عبر محتوى يوتيوب التعليمي قبل تطبيقها عمليا.
فمن أجمل ما قد نتعلمه من هذه التجربة أن التعلم يمكن أن يتم ذاتيا ومن خلال الممارسة. بناء الجدران، وتركيب الألواح الشمسية، أو حتى تربية الدجاج، كلها دروس عملية تجعل من المغامر الذي لا يملك خبرة سابقة مهندسًا ومزارعا وحرفيا في الوقت نفسه.
حلم العيش بين أحضان الطبيعة
قصة فادي ورند ليست مجرد مغامرة شخصية، بل تجربة تلهم الكثيرين لإعادة التفكير في مفهوم العيش الحرية والاستدامة والاكتفاء الذاتي في عصر شبكات التواصل والذكاء الاصطناعي. فمع تسارع الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، تبرز الحياة المستقلة Off-Grid كخيار بديل أو ملاذ هادئ. فهي تذكرنا بأن التكنولوجيا مهما بلغت، تبقى عاجزة عن استبدال تجربة الحياة البسيطة التي عاشها أجدادنا، وعن الأعمال اليدوية التي تبني الإنسان قبل أن تبني البيت. رحلة فادي ورند رحلة مليئة بالتحديات اليومية، لكنها أيضًا مليئة بالمعاني العميقة في أن تعيش أبسط، فتدرك قيمة الأشياء أكثر.
العالم الرقمي يتغير باستمرار ونحن بحاجة لأن نكون على اطلاع دائم فاشترك معنا ليصلك كل ما يمكن أن يساعدك في رحلتك نحو التحول الرقمي سواء في العمل أو التعليم أو التواصل.