تعلمتَعلُمتعليم

هيبة التعليم…. وهل للتعليم هيبة؟

مع التحول نحو التعليم الرقمي ومجتمع المعرفة ينادي البعض بعودة هيبة التعليم ليكون كما كان في السابق معتقدين ان انخفاض أو انعدام هيبة التعليم هو السبب الأساسي في تراجع مستوى طلابنا في المدارس. يريدون أن تعود المناهج الجافة المباشرة وتعود الامتحانات المرعبة والمدرس الصارم بل وربما يعود الضرب الى المدارس. فبهذا سيعود للتعليم هيبته ويرتفع مستوى الطلاب الى ما كان عليه في السنوات الخوالي التي خرجت أجيالا أكثر علما وفهما من أجيال اليوم في رأي البعض.

لكن هل فعلا إن أصبحت الامتحانات أصعب وأصبح المدرس أكثر عبوسا وأصبحت الكتب جادة مباشرة كما كانت في السابق، هل سيتغير الوضع؟ أم أننا سننتج طلابا حفظة لا يتقنون فعل شيء وغير جاهزين لهذا العالم الذي تزداد فيه المنافسة يوما بعد يوم. هل سيزداد حب الطلاب للمدارس والتعليم ويقبلون على دراستهم بشغف وحب؟ أم سيستمر تسرب الطلاب من المدارس وكرههم لها.

بالتأكيد لا. فالمشكلة لا تكمن اطلاقا في فقدان تلك الهيبة للتعليم انما تعود ببساطة الى أننا ما زلنا نقدم تعليما لا يناسب جيل اليوم. فكل ما يحدث من تطوير وتحسين هو في القشور لا في الجوهر. لقد أصبحت الكتب أكثر اناقة وأصبح المدرس لطيفا (في العموم) وأصبحت التقنية جزءا أساسيا من المدرسة لكن ما زلنا نعتمد على التلقين وما زال مطلوبا من الطالب أن يحفظ أشياء كثيرة لا قيمة لها في حياته العملية وما زلنا نفترض أن المعلم هو المصدر الأساسي للمعرفة وما زالت النشاطات التعليمية مملة غير مجدية ولا تمس الواقع وما زلنا نتجاهل كل تلك الأدوات التي يستخدمها جيل اليوم في تحصيله للمعرفة ونصر على أن الكتاب والمعلم هما مصدر المعلومة الوحيد.

نحن بحاجة الى تغير جذري في نظرتنا للتعليم حتى تعود له هيبته. بحاجة لأن نقدم تعليما يناسب جيل اليوم فيجعلهم يقبلون على التعليم بشغف لا أن يخافوا منه. فإن تعلمنا نحن بأسلوب معين ناسب عصرنا في ذلك الوقت فلا يعني هذا أنه سيناسب هذا العصر الذي تطورت فيه مصادر المعرفة وأساليب الحياة.

إن الدمج والتكامل الذي نراه اليوم بين التطبيقات السحابية Cloud Computing والأجهزة المتنقلة Mobiles والشبكات الاجتماعية وتقنيات البيانات الضخمة Big Data خلق بيئة مختلفة تماما عن تلك التي تعاملت معها الأجيال السابقة. فهي بيئة مفتوحة وغير محتكرة وغير مركزية ومتاحة في أي وقت وفي أي مكان ومن أي جهاز وبتكلفة منخفضة. بيئة يتسارع فيها التطور بشكل كبير وتوفر حرية في العمل لم تكن متاحة للأجيال السابقة. وبالتالي فلا يمكن اليوم لأنظمة جامدة أن تحد من تلك الحرية وأن تنجح في خلق بيئة تعلم حقيقي كما كان الحال سابقا.

الأركان الخمسة للتعلم الحقيقي

 

ولكي تتحقق أي عملية تعليمية حقيقية بالشكل الصحيح والمناسب لجيل اليوم فلابد أن تقوم على مبادئ وأركان خمسة لابد أن تتحقق في أي مقرر دراسي مدرسي أو جامعي أو مهني.  تتمثل تلك العناصر:

  • الهدف: لابد أن يكون للتعليم هدف واضح يسعى له المتعلم سواء على مستوى المرحلة الدراسية أو التخصص أو المنهاج أو المقرر. هذا الهدف هو الذي سيدفع المتعلمين ليتعلموا ويمدهم بالحافز لتحقيق النجاح وتشجعهم على المشاركة وتضع أمامهم رؤية واضحة لما يجب عليهم تحقيقه. فالتعليم بدون هدف (سوى النجاح في الامتحان) سيخرج جيلا غير مؤهل لشيء لأنه لم يخطط لما يجب أن كون عليه. ينبغي أن يكون لكل منهاج أو مقرر دراسي هدف واضح مرتبط بالواقع الذي سيعيشه المتعلم بعد تخرجه ويكون ذلك الهدف هو محور المادة العلمية والمعرفية التي يتلقاها الطالب.
  • الحوار: لا يقوم تعلم دون حدوث حوار بين المتعلمين. فتمكن المتعلمين من النقاش حول المفاهيم والمفردات المعرفية التي يتعاملون معها هو اساس أي عملية تعلم، لأن اكتفاء المتعلم بتلقي المعلومة دون أن يشارك في بنائها لا يمكن أن يؤدي للتعلم. وهذا ما اتفقت عليه نظريات التعلم الحديثة واستراتيجيات إدارة المعرفة المطبقة في منشآت الأعمال، فالحوار هو الوسيلة المثلى لتبادل الخبرات والتجارب بين مجموعة المتعلمين بهدف اكتساب مهارة جديدة أو التمكن من أداء عمل معين. كما أن المعرفة لا يملكها فرد واحد اليوم بل هي منتشرة وموزعة بين مصادر مختلفة وبالتالي فينبغي تلقيها من تلك المصادر عبر الحوار وعدم الاكتفاء بالمعلم كمصدر للمعلومة. وبالتالي فلابد أن تتضمن أي عملية تعليمية الكثير من الحوار والنقاش الشفهي والمكتوب بين الطلاب بدلا منن التلقين والحفظ والنسخ.
  • الممارسة: لا يمكن للمعرفة أن تصبح جزءا من المتعلم دون أن يمارس المتعلم ما تعلمه لأنه في النهاية هو يتعلم ليعمل. وبالتالي فلابد لأي عملية تعليمية أن تتضمن ممارسة حقيقية لها علاقة بالواقع الذي سيعيشه المتعلم بعد خروجه من المدرسة تتضمن التخطيط والتنفيذ والتقييم وليس مجرد نشاطات تعليمية جوفاء مكررة ومملة. والتقنية اليوم تساعدنا على تحقيق هذه الممارسة بشكل أفضل بكثير مما كان عليه الحال سابقا حيث يستطيع الطالب اليوم أن يجرى تجاربه عبر الإنترنت أو يخوض جولة سياحية أو يتقمص شخصية ما أو حتى يستخدم أدوات العمل التي تستخدمها الشركات في التخطيط والتنفيذ لمشاريعها.

ينبغي ألا تنحصر الممارسة بحدود المقرر الإلكتروني الجامد ووقته، بل ينبغي أن تفتح افاقا أوسع للمتعلم فينجزها وفقا لقدرته وامكانياته وضمن الوقت الكافي الذي يحتاجه. ينبغي أن تكون المهمة المطلوبة للممارسة أكثر تعقيدا وعمقا من مجرد نشاط تعليمي بسيط. إننا نتحدث هنا عن نشاطات تعليمية متسلسلة تتم طوال فترة التعلم بحيث يبني كل نشاط تعليمي على الأخر حتى يصل المتعلم إلى قدرة على إنهاء مهمة محددة ذات قيمة في نهاية العملية التعليمية تماما كما يحدث في الحياة العملية المهنية،

  • التعلم الذاتي: التعلم الذاتي هو أساس عملية التعلم وأحد أهم دعائمه التي لا يقوم الا بها. والتي يجب أخذها في الاعتبار في أي مقرر دراسي. ينبغي أن يُترك للمتعلم أن يتعلم بنفسه دون مساعدة المعلم أو حتى الوالدين فقدرة المتعلم على تحديد المسار الذي سيسلكه في تعلمه والمصادر التي سيعتمد عليها هو ما يمكنه من الاستمرار في أي مقرر دراسي دون وجود المدرس كعنصر اساسي ومسيطر في العملية التعليمية. التعلم الذاتي يجعل المتعلم هو مركز العملية التعليمية وهدفها الرئيسي حيث يعتمد على اهتمام المتعلم بما يتعلمه وعزيمته على الاستمرار في التعلم لتحقيق هدف محدد، ويتأتى ذلك من الدافعية التي قد يملكها المتعلم أثناء الدراسة والتي ينبغي أن تكون مرتفعة حتى يستطيع الاستمرار في التعلم حتى النهاية. وتنبع الدافعية من ايمان المتعلم بما بفعله وبالهدف الذي يسعى لتحقيقه وبجديته. ويرتبط التعليم الذاتي بيقظة المتعلم لذاته ولما يتعلمه وإلى أين هو ذاهب لأن ذلك ما سيساعده على التخطيط لتعلمه وتحديد المهام التي يحتاجها للوصول إلى الهدف. إن توافر أدوات التواصل والتراسل بين أيدي جيل اليوم جعل من عملية التعلم الذاتي أمر حتميا وليس خيارا.
  • الدعم: لم تعد وظيفة المعلم اليوم تنحصر في تدريس طلابه انما أصبحت في تقديم الدعم لهم حتى يتعلموا لأنه لم يعد مصدر المعلومة الوحيد ولان المتعلم اليوم هو الوحيد القادر على تحديد الطريقة التي سيتعلم بها ولا يمكنه أن يتقبل إملاءات من أحد. وهنا ينبغي أن تتغير نظرتنا للمعلم الحقيقي المتميز الذي يقود عملية التعلم ويدير حوار بين طلابه ويحل مشاكلهم ويساعدهم على ممارسة ما يتعلموه بمشاريع ومهام حقيقية ويقوي لديهم نزعة التعليم الذاتي حتى يستطيعوا النجاح والاستمرار. هذا هو المعلم الذي سيكون حجر الأساس في أي عملية تعليمية في المستقبل وليس من يتقن تلقين طلابه أو يحضر درسه او يعاقب من شاغب.

وأخيرا…نحن بحاجة الى تعليم حقيقي يناسب التحول الرقمي

إذا رافق كل عملية تعليمية هدف واضح يدفع المتعلمين للتعلم وخالطها الحوار والممارسة الحقيقية بدل التلقين والنشاطات المملة وأخذت بالاعتبار إن يتعلم المتعلم بنفسه ذاتيا مستخدما تلك الأدوات الرقمية التي يتعامل معها في حياته اليوم وتخلى المعلم عن مهنة التدريس وركز على دعم طلابه ومساعدتهم فإننا بالتأكيد سنجد أنفسنا أمام تعليم له هيبة من نوع أخر. هيبة تعتمد على رغبة المتعلم في أن يتعلم ورغبة المعلم في أن يدعم. هيبة تعتمد على الاستغلال الأمثل للتقنيات الرقمية في احداث تغير جوهري في نظامنا التعليمي.

اشترك في نشرة تَعلُم الرقمية

العالم الرقمي يتغير باستمرار ونحن بحاجة لأن نكون على اطلاع دائم فاشترك معنا ليصلك كل ما يمكن أن يساعدك في رحلتك نحو التحول الرقمي سواء في العمل أو التعليم أو التواصل.

د/عماد سرحان

إستشاري ومتخصص في المعلوماتية وإدارة المعرفة وتطوير المحتوى بخبرة تزيد عن 24 عاما. حاصل على درجة الدكتوراه والماجستير في نظم المعلومات ووهو مدير مشاريع معتمد من معهد إدارة المشاريع PMP وممارس معتمدا لأتمتة الأعمال ومحترف معتمد في إدارة المعلومات CIP من هيئة إدارة المعلومات في الولايات المتحدة الأمريكية AIIM ومؤلف كتاب “سر النجاح في بناء وتأسيس المواقع الإلكترونية” الصادر عام 2012 عن دار العبيكان للنشر في المملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *